إذا كانت “عدادات” الموّلدات وصهاريج المياه والاتصالات والتبضع من دكان الحيّ الجليس الثالث بين كلّ لبنانيين يجتمعان حول فنجان قهوة أو “راس أرجيلة”، فإن قضية الشقق السكنية والقروض التي توقفت مؤخراً باتت ترافق المواطنين في كل لحظة ومكان وصولاً إلى الوسادة التي لم تعد تبعث بالنعاس في حضرة دولة غائبة عن الوعي، أو في أفضل الأحوال منهكة! والحال أنّ شريحة عظمى من اللبنانيين، وبخاصة الشباب منهم، صارت تعيش حلم وهاجس شراء شقة كحق بديهي وجزء طبيعي من مشروع صوغ مستقبل مستقر وتأسيس عائلة، وعبثاً يتحقق الحلم أو يتبدد الهاجس. لماذا؟ وما هو واقع سوق العقارات راهناً؟ ما هي التوقعات للمستقبل القريب؟ وهل ستعود قروض الإسكان، وما الحلول في حال ظلّت غائبة؟
يشرح الإستراتيجي في أسواق البورصة العالمية والشؤون الإستثمارية جهاد الحكيّم أن “أزمة العقارات بدأت في لبنان منذ سنوات، وانهيار الأسعار حصل بشكل تدريجي”. لكنّ كل ذلك كان يحصل وسط تعتيم ممنهج ومقصود وإصرار على دعم القطاع العقاري أياً يكن الثمن. أمرٌ فاقم الأزمة بحسب الحكيّم الذي يصرّ في المقابل على أنّ انخفاض أسعار العقارات يبقى إيجابياً رغم كل ما يحصل. فماذا في التفاصيل؟!
الانخفاض واضح ويتفشى!
حالياً، انخفضت أسعار الشقق في بيروت حوالى 40% مقارنة مع ما كانت عليه في السنوات القليلة الماضية. يقول الحكيّم في حديث لـ “لبنان24″:” المصارف تقوم بتسعير الشقق راهناً بسعر يقلّ عن 40% عن السابق، لكن برأيي، فإن الانخفاض كمعدل وسطي، لامس حدود الـ 45% (في بيروت)، حتى أنّ هنالك عروضاً تصل إلى 50% أقلّ في حال حسن التفاوض”.
ويشرح الحكيّم أنّه وفق علم الاقتصاد، يكون السعر الأقلّ هو سعر السوق الحقيقي وبالتالي فإن إصرار بعض المطورين العقاريين على إبقاء السعر ثابتاً لا يعكس،عملياً، الواقع.
أما بالنسبة إلى المناطق اللبنانية الأخرى، فيتراوح انخفاض أسعار الشقق بين 30 و40% وهو مرجح للتصاعد (هناك فترة زمنية بين ارتفاع الأسعار أو انخفاضها في بيروت والمناطق الاخرى تتراوح من سنة إلى سنة ونصف)، بحسب الحكيّم الذي يلفت إلى أنّ الانخفاض لا يشمل الشقق السكنية وحسب، بل أيضاً إيجارات المؤسسات والمطاعم والمقاهي وهو ما يخفف من كلفتها التشغيلية ويزيد من ربحيتها.
وبالحديث عن الأسباب، يبرز أولاً وبشكل رئيس عامل النفط! بحسب الحكيّم بلغ معدل سعر برميل النفط البرنت في العام 2014 97 دولاراً فيما انخفض ليصل إلى 54,5 دولاراً في العام 2015 وصولاً إلى 46 دولاراً في العام 2016 وهو السعر الأكثر انخفاضاً في الأعوام الخمسة الماضية. وبحسب دراسة أعدّها يقول الحكيّم إن هنالك فارق عشرين شهراً بين انخفاض سعر النفط وانعكاسه على تحويلات المغتربين وودائع غير المقيمين وتالياً على السوق العقاري. والحال أنّ القطاع العقاري في لبنان بدأ يتأثر “سلباً” وبشكل ملحوظ بعد تشرين الأول من العام 2017 فيما يتوقع، وفق معادلة “العشرين شهراً” أن ينعكس انخفاض سعر النفط في العام 2016 على العقارات في لبنان بدءاً من تشرين الأول 2018 (وهذا ما حصل)، على أن “يكون العام 2019 الأصعب” وفق الحكيّم.
هل نحن إذاً في نهاية النفق المظلم الذي يعيش فيه اللبنانيون وبخاصة فئة الشباب منهم؟!
الحياة لم تصبح… En rose!
للأسف، لم يستطع اللبنانيون (ولا يزالوا) الإفادة من انخفاض أسعار العقارات وبالتالي تحقيق أحلامهم الوردية. يعيد الحكيّم التذكير بأن انخفاض أسعار العقارات مفيد وإيجابي على الاقتصاد اللبناني والمواطنين على حدّ سواء، فيقول:” الانخفاض يعني حكماً أنّ الكلفة التشغيلية للمؤسسات والمصانع آيلة إلى التقلّص ما ينعكس إيجاباً على ربحيتها وقدرتها التنافسية. وفي الموازاة، فإن انخفاض أسعار العقارات يمكّن الشاب اللبناني من شراء شقة بسعر أقلّ وصرف الأموال التي وفرّها لشراء أمور أخرى كأثاث المنزل أو سيارة أو لارتياد المطاعم والمقاهي.. ما يحرّك العجلة الاقتصادية في السوق.
لكن الرياح تجري أحياناً بخلاف ما تشتهي السفن. والحال أنّ تلك الرياح الهوجاء لم تكن “طبييعية” بل ولدّها “سوء إدارة الأزمة من قبل القيّمين على القطاع المالي والاقتصادي في لبنان“، بحسب الحكيّم.
ومن المعروف أنّ الطلب على الشقق يأتي من ثلاثة محاور: الأول هو الطلب الخليجي الذي بات اليوم في حال العرض لأسباب عدّة، والثاني يأتي من المغتربين والحال أنّ أوضاعهم صعبة بسبب انخفاض أسعار النفط عالمياً الذي يحد من توظيفهم او توظيفهم برواتب أقل، أما الثالث فمصدره الطلب الداخلي الغائب راهناً.
ويشرح الحكيّم أننا في لبنان نعيش أزمة اقتصادية حقيقية مرتبطة في مكان ما بتحويلات المغتربين لكنها أيضاً وليدة سوء الإدارة محلياً. يقول:” لقد فُرضت ضرائب جديدة في خضم الركود الاقتصادي (وهو ما يؤدي إلى الكساد)، ومن المعروف بحسب منحنى لافر (Laffer curve) أنّ فرض ضرائب لا يخدم أحياناً هدفه الرئيس أي إدخال إيرادات إلى ميزانية الدولة بسبب التهرب الضريبي وتباطؤ العمل والاستثمار…وهذا ما حصل بالفعل! لقد فرضوا ضرائب جديدة أثقلت كاهل المواطن لكنهم لم يتمكنوا من تحصيل إيرادات إضافية!
في الموازاة، تمّ رفع الفوائد بشكل جنوني ما أدّى إلى فقدان السيولة من السوق وتوقف الاستثمارات بفعل غياب الحوافز إذ عادة ما يفضل أصحاب الأموال في هذه الحال الذهاب إلى الاقتصاد الريعي (أي إيداع الأموال في المصارف) على استثمارها ومواجهة مخاطر محتملة، وهو أمرٌ يؤثر سلباً على سوق العمل المحليّ ويفاقم البطالة التي وصلت بحسب آخر الإحصاءات إلى 37% في صفوف الشباب في لبنان!
ويضيف الحكيّم إلى تلك الأسباب سبباً آخر هو “الاستماتة في دعم السوق العقاري خلال السنوات الماضية وغياب الشفافية ونكران وجود الازمة ما جعل المطوّرين العقاريين المغمورين يستمرون في البناء مضاعفين بذلك العرض ومفاقمين الأزمة”.
وكي “يكمل النقل بالزعرور”، “تتوّج” الأزمة بتوقف قروض الإسكان. يوضح الحكيّم:” لا دخل لتوّقف القروض بانهيار أسعار الشقق، بل كما شرحنا، فإن العوامل السلبية أتت من أماكن أخرى”.
وبالحديث عن القروض السكنية، يرى الحكيّم أنها لن تعود قريباً بفعل وجود مخاطر كثيرة. يشرح:” المصارف باتت تدرك اليوم أنّ أسعار الشقق آيلة إلى الانخفاض وبالتالي لن تكون متحمسة لفتح باب الاستدانة كون الضمانة ستنخفض في المستقبل القريب. أضف إلى ذلك التعميم الذي أصدره مصرف لبنان في آب الماضي وحمل الرقم 503 والذي يحدّد فيه سقف التسليفات المصرفية بالليرة بنسبة 25% من الودائع بالليرة (وهي راهناً 35%)، محدداً مهلة تصحيح الأوضاع المخالفة بعام واحد (أي لنهاية العام 2019) مما سيحدّ من التسليفات بالليرة اللبنانية والتي تشمل القروض السكنية.
وفي السياق، يرى الحكيّم أن الحديث عن رصد مبلغ مئة مليار ليرة لبنانية لحلّ أزمة القروض ليس إلا “بروباغندا” إذ إن هذا المبلغ لا يكفي الا لشراء عدد ضئيل من الشقق السكنية علماً أنّه كان يباع في السنوات الخمس الماضية 55 ألف شقة بشكل وسطي، إضافة إلى أن تلك القروض، بحسب المعطيات، ستكون مدعومة لخمس سنوات فقط ، وهذه مخاطرة لن يقوم بها أي مصرف، مضيفاً:” وفي حال أعطيت تلك القروض فستكون الفوائد مرتفعة جدا مقارنة مع ما كانت عليه في السابق”.
إلى أين نحن ذاهبون حقاً؟ وماذا على اللبناني الحالم بسقف يأويه أن يفعل؟!
بأسف، يقرّ الحكيّم “أننا ذاهبون إلى الهاوية في حال لم يتدارك المسؤولون الأمور ويقرروا البدء بورشة إصلاح شاملة تقي لبنان واقتصاده وسوقه عواصف العوامل الخارجية مثل انخفاض أسعار النفط عالمياً، أو أقلّه تحدّ من التأثيرات”.
يتابع:” كان انهيار أسعار العقارات في لبنان ليكون إيجابياً على المواطنين لو أنّ سياساتنا وأوضاعنا الاقتصادية بخير، سيّما وأن انخفاض الأسعار قد يصل إلى 60% في أواخر العام 2019. لكن من المؤسف حقاً ما يحصل اليوم، فالمواطن الذي اشترى شقة في الماضي القريب بسعر ضخم يرزح اليوم تحت وطأة كمبيالة شهرية مرتفعة القيمة، والمواطن الذي كان على وشك دوس عتبة شقته الجديدة تسمّر في أرضه بفعل وقف القروض السكنية…لقد خلقوا أزمة اجتماعية حقيقية!”
الانتظار والتريّث هما ما ينصح بهما الحكيّم كلّ من يفكّر بشراء شقة في الوقت الراهن داعياً إلى الاستعاضة عن ذلك بالاستئجار شرط الابتعاد عن البيع الإيجاري (أي الاتفاق مع صاحب الشقة بأن يقتطع الإيجار من سعر الشقة) لأن هذه الآيلة كانت لتكون مفيدة وإيجابية لو أنّ اتجاه الأسعار تصاعدي فيما الحال اليوم أنّ الأسعار ذاهبة إلى الانخفاض.
الخلاصة إذاً أن أسعار العقارات لا تزال مستمرّة في انهيارها، و”الخير لقدام” في العام 2019 و2020. لكنّ اللبناني سيء الحظ فهو عاجز اليوم عن الإفادة من ذاك “الانهيار”، وما من حلّ إلا بورشة اقتصادية شاملة تنشل هذا الشعب من مآسيه وتعطيه أبسط حقوقه، أو اقلّه، تسمح له بأن يحلم كما يريد!