الاقتصاد والنقد خطان متلازمان لا يمكن أن ينفصلا أبداً. ذلك يعني عمليّاً أن الأزمات النقديّة لا يمكن أن تكون مستقلّة عن الاقتصاد الحقيقي والذي لطالما شكل القطاع العقاري جزءاً أساسياً منه.
خلال الأزمة العقارية التي بدأت منذ العام 2013 ولغاية مطلع الجاري، تهافت المستثمرون في العقار على تقديم حسومات لامست حدود 60% في بعض المناطق في محاولة منهم لتحريك هذه السوق “المجمّدة” منذ سنوات. اليوم ومع الازمة النقدية غير المسبوقة تغيّر هذا المسار. وبات المطوّرون يفضّلون الاحتفاظ بعقاراتهم بدلاً من تجييرها الى “شيكات” أو ربما تحويلات مصرفية بعيدة عن متناول أيديهم. أما المصارف فيبدو أن عدداً منها قد اعتمد نهج تسييل العقارات دولارات لدفعها الى العملاء بدلاً من أموالهم المحجوزة قسراً.
الودائع دَين للمصرف
في اتصال مع “نداء الوطن” يوضح الاستراتيجي في أسواق البورصة العالمية جهاد الحكيّم أن “بعض المصارف اليوم بدأ يعمل على خفض حجم ميزانياته. فهناك أشخاص اقترضوا من المصارف مقابل ضمانات عقارية، وهناك آخرون يعانون من قروض متعثرة، وغيرهم يعانون من نتيجة الضوابط التي تفرضها المصارف والتي تفتقر أصلاً الى السيولة . ذلك يعني أن هناك مقايضة ترتكز عليها المصارف فتقوم بإعطاء العقارات الى زبائنها بدلاً من الودائع النقدية. أي أنها تدفع “بالعقارات” بدلاً من المال النقدي. وذلك يتم عملياً بالتوافق مع 3 أطراف: “طرف متعثر وغير قادر على البيع، أو آخر بحاجة الى إعادة جدولة ديونه، أو من جمّد رهناً عقارياً مقابل ديونه. تخفّض هذه الطريقة حجم المطلوبات باعتبار أن الودائع هي بمثابة دين للمصرف”.
ويضيف: “في مقابل ذلك، يتخوف المودعون على مصير ودائعهم لذلك يفضّل عدد كبير منهم العقارات كونها ضمانات عينيّة يمكن أن تكون أفضل في ظل الاوضاع الراهنة. ويسعى الذين يُعتبرون عرضة لمخاطر سعر الصرف الى الاستثمار بالعقارات لكن السؤال يبقى ان كان الطرف الآخر موافقاً على قبض المبلغ بالليرة اللبنانية، فالعقارات الى حد ما ملاذ آمن ولكنها تخسر من قيمتها مع غياب الطلب والنقص في السيولة. الى ذلك، يمكن للذين يملكون أموالاً في الخارج أن يشتروا عقارات في هذه الفترة لانهم يستفيدون من اسعار أرخص خصوصاً أن كثراً منهم بحاجة الى أموال خارج السوق اللبنانية لدفع مستحقات كأقساط الجامعات أو بدل الايجارات في الخارج. لكن ذلك لن يؤدي الى ارتفاع في أسعار العقارات بسبب القيود المفروضة على رؤوس الاموال والتي غيرت المعادلة ككل، حيث أتوقع أيضاً ان يفرضوا قيوداً على السحوبات بالليرة للحد من مقايضتها بدولارات مما يزيد من سعر صرف الدولار بالنسبة الى الليرة”.
عجائب “الوهمي والحقيقي”
من جهته، يقول الباحث في جامعة هارفرد دان قزي إن”الاموال الموجودة في الحسابات المصرفية هي في الواقع أموال وهمية “monopoly money” والدليل على ذلك يتبلور من خلال كون قيمة الدولار اللبناني أقل من الدولار الحقيقي. الى ذلك، قلّة هم من يعون المقصود بقص الودائع (haircut) وما ستكون قيمة هذا الاقتطاع. بالتأكيد إن الواقع النقدي ينعكس على ذلك المرتبط بالوضع العقاري. في هذا الصدد هناك ظاهرتان اثنتان: فإما المطوّر العقاري مديون للمصارف وفي هذه الحالة فهو يقبل أموال المونوبولي تلك لأنها تغطي ديونه. إما ذاك المطور الذي ليس مديوناً وبالتالي لن يبيع عقاره من أجل مال وهمي”. ويتابع: “للأسف الناس لا تدرك حتى اليوم ما الفرق بين المال الوهمي والمال الحقيقي وهنا يكون المطورون أمام خيارات عدة : الاول هو من ليس له إلمام بالقضايا النقدية وارتباطها بالاقتصاد الحقيقي، الثاني هو المدين الذي أي نوع من المال يشكل له خلاصاً من ديونه للمصارف، اما الثالث فهو ذلك الذي يملك مالاً خارج لبنان. خلاصة الحديث يمكن القول إن مال المونوبولي يمكن أن يرفع أسعار العقارات بالدولار الوهمي طبعاً لكن لدى التداول بالدولار الحقيقي فإن هذا السعر قد يكون أقل. فإن كان هناك شخص يملك عقاراً قيمته 100 ألف دولار فمع المال الوهمي قد يصبح بـ 110 آلاف دولار لكن لدى الدفع بالدولار الحقيقي قد يلامس السعر 80 ألف دولار”.
بين العامين 1990 و2019 قواسم مشتركة عدة أبرزها الأزمة النقدية، اما تحول المصارف الى “مُقايض” يبدّل العقارات بالدولارات فظاهرة جديدة!